الحوادث، والمصاعد، والسكارى قصتي مع الحرية
دائمًا ما أرى الفتيات يتحدثن عن “الحرية”، عن رغبة مشتعلة بها، رغم كل اللغط الذي يدور حول معناها وحدودها. في مجتمعاتنا العربية، للوالدين سلطة تمتد طويلاً، حتى بعد أن يبلغ الأبناء العشرين وأكثر، تظل قراراتهم خاضعة للموافقة، وآراؤهم محل مراجعة، وأحلامهم معلّقة بمزاج الرضا.
وغالبًا ما تُبرّر هذه القيود بجملة أصبحت مستهلكة: “واثقين فيك، بس مو واثقين باللي حولك”، بالنسبة لي، هذه أضعف حجة سمعتها. فماذا ستمنع عن ابنك أو ابنتك؟ وما الجدوى من الحماية الزائدة إذا بلغ الإنسان الثلاثين ولم يختبر شيئًا بنفسه؟ إن التجربة، على قسوتها تربي، وفرط السيطرة لا ينجب إلاّ أرواحًا هشة، عديمة الحيلة، قليلة الخبرة.
أتذكر أنني في مراهقتي كنت أملك هاجسًا واضحًا: الحرية.
كنت أعدّ الأيام شوقًا لأكبر، لأمتلك قراري، لأحقق قائمة أمنياتي الطويلة، تلك التي كتبتها بسرية، وكان أغلبها يعتمد على أن أكون وحدي، مع نفسي، ومع قراري. (ربما أشارككم إياها لاحقًا!)
كوني “آخر العنقود” كما يقولون، لم تُفرض عليّ قوانين صارمة، كما حدث مع إخوتي الأكبر مني. هم مهدوا لي الطريق، وأنا سرتُ فيه بأقل قدر من الصراع. صحيح أنني حظيت بامتيازات حرية أكبر مقارنةً بقريناتي، لكن أمي كانت دائمًا ترى أنني ما زلت “صغيرة”، وكنت أشعر أنني أقضي عمري في محاولات لإثبات العكس.
كانت تردد لي دائمًا: “أنتِ في عيني مازلتِ رضيعة، مهما كبرتي”.
أتذكر مرة، في أواخر مراهقتي، طلبت منها أن أذهب مع السائق وحدي، لكنها رفضت، وقالت إنها ستأتي معي. أردت أن أُجنبها التعب، فحاولت إقناعها بكل الأدلة، حتى استشهدت بآيات:(وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)
قلت لها: “وإن كنت في حضنك، فالموت سيدركني إن شاء الله وقدّر ذلك”، نظرت إليّ وأشارت إلى صدرها وقالت: “أدري، بس هذا – وأشارت إلى قلبها – وش يفهمه؟”، في تلك اللحظة، عرفت أن هذه حرب خاسرة. فأنا لا أواجه عقلها، بل قلبها.
حين دخلت الجامعة، كان واضحًا لدي أنني أرغب بالابتعاث. كنت أطرح الموضوع مرارًا، لكن أمي كانت ترفضه تمامًا، وتردد جملة أظن أن معظم الفتيات سمعنها: “إذا تزوجتي، روحي مع رجلك.”، وكنت أرد عليها بحدة: “لماذا أربط طموحي برجل؟ ولماذا لا أحقق أحلامي بنفسي؟ الحياة ليست رجلًا، وربي هو الحامي، لا غيره.”
كنت أضحك حينها وأقول: “وين مصباح علاء الدين اللي بيطلع لي رجل بالمواصفات والمقاييس المناسبة لطموحاتي؟”
قررت حينها أن أمارس نوعًا من العلاج النفسي يسمى العلاج بالتعرض أو exposure therapy.
لا أدري إن كان هذا عقوقًا! لكن كنت أجرّب مقاومة خوفي وخوفها على طريقتي.
مرت السنوات.
حين بدأت بقيادة السيارة، كانت أمي تتصل بي إذا تأخرت، تخشى أن يكون قد وقع حادث. لكن بعد سلسلة من الحوادث (والتي قد تكون بسبب قيادتي المتعجرفة أو لأسباب أخرى)، امتلأ هاتفي بأرقام موظفي “نجم” والورش. تعودت أمي، وصار الخبر العاجل “تعرضت لحادث” خبرًا يوميًا.
يقولون عني إنني متهورة ولا مبالية، لكني لا أرى نفسي كذلك. أنا فقط لست شكاكة، لا أعيش بهواجس، وأقاوم مخاوفي وجهًا لوجه.
وأخوتي كانوا يقولون لي دائمًا: “أنتِ ماشية على دعوات أمي”، وأنا لا أنكر ذلك. مصائبي لا تتوقف، لكن لطف الله ودعاء أمي دائمًا ما ينقذوني.
أتذكر إحدى المرات كادت شاحنة تدهسني، ومرة علقت في مصعد داخل مبنى خالٍ من الموظفين،
أو تلك المرة التي تأخرت فيها عن موعد الخروج من العمل، لا لأني كنت متفانية (رغم أنني كنت كذلك والله!) بل لأني “نمت بالغلط”. ومن يومها، كلما تأخرت عن الخروج، تتصل أمي لتتأكد أن “ما راحت عليّ نومة”.
النوم عندي أولوية. لذا لي سوابق بالنوم العشوائي في أماكن غريبة، ولا أفتخر بذلك.
وكل هذا حدث وأنا في قلب الرياض ولم أبتعد!
أتذكر أول مرة سافرت فيها بعيدًا عن وطني، كانت مع إخوتي. كنا في بلد جديد، لكننا لم نكن نتجول معًا طيلة الوقت. فاهتماماتنا مختلفة، أنا أهوى الطبيعة، الأماكن التاريخية، المتاحف. أما هم، فعاشقون للمدن الصاخبة والمجمعات التجارية. كنا نلتقي أحيانًا في بعض الفعاليات المشتركة، أما بقية اليوم، فلكلٍّ طريقه.
في أحد الأيام، اتفقت مع أختي أن نلتقي عند الميناء الساعة الرابعة عصرًا لنخوض معًا تجربة بحرية.
كنت أتمشى في المدينة، أتنقل بين الحدائق كعادتي، تساءلت كيف يعرف أخي الطرق دون استخدام قوقل ماب؟ فنظرة واحدة تكفيه ليستدل الطريق، فأنا وللأسف لا أملك ما يُسمى بالذكاء المكاني. يجب أن أحدّق بالخريطة طوال الوقت، وأكرر الطريق في رأسي مرارًا، ومع ذلك، قد أضلّ الطريق بسهولة!
وأنا في إحدى الحدائق، لاحظت مجموعة من الأشخاص بدوا لي غريبي الأطوار. أحدهم مستلقٍ على المقعد، يرتدون ملابس رثة، ومظهرهم مريب. ترددت، لكن قلت لنفسي: نحن في وضح النهار، ما الذي قد يحدث؟ جلست لبضع دقائق، حتى أتتني امرأة وبدأت بالكلام، طلبت مني نقودًا، أخبرتها أنني لا أملك نقدًا، لكنها أصرت. في تلك اللحظة، قلقت. راودني هاجس أن تخرج سكينًا. ثم ضحكت داخليًا، فهي أطول وأقوى مني، لن تحتاج سكينًا أصلاً لإسقاطي! لا أعلم كيف، لكن فجأة فقدت قدرتي على الحديث بالإنجليزية. بدأت أتحدث معها بالعربية، وأقسمت لها الأيمان أنني لا أملك شيئًا. نظرت إليّ نظرة غريبة، ربما فكرت: ما بال هذه المعتوهة؟ وابتعدت عني قليلًا. حينها، ركضت. ركضت بكل ما أوتيت من خوف، ولم أدرِ إلا وأنا أمام الميناء، بلا خريطة، بلا قوقل ماب، فقط بدافع النجاة!
حين وصلت، اتصلت بأختي، ولا أعلم حقيقة لماذا صببت غضبي عليها. شتمتها، لعنت، رغم أنني لا ألعن أصلًا. ثم ضحكنا. ضحكت لأنني وصلت، ونجوت، وتعلمت درسًا جديدًا: أن أثق بحدسي دائمًا.
وفي النهاية، حدث ما كنت أتمناه، سافرت للابتعاث. وافقت أمي، لا أعلم إن كان بسبب “الزن”، أو أنها اقتنعت أنني أهل للمسؤولية، أو ربما فقط استسلم قلبها.
سافرت. وعشت هناك بلا رجل.
ولا أنكر أنني استفدت من وجود أخي وأقاربي الرجال حين تواجدوا، خصوصًا في المهام التي أكرهها مثل حمل الأشياء الثقيلة، تركيب الأثاث، رمي القمامة (أعزكم الله)، وكل ما يخص السيارة، أما الطبخ، فذلك عدوي اللدود. فأنا قادرة أن أعيش على تمر وقهوة وزبادي وتفاحة. لكن الرجال، وفصيلتهم الآكلة للحوم والأعشاب وكل ما يدبّ على الأرض، لا يعيشون مثلي على “الطاقة الشمسية” كما يقولون. ولأن طبخي لا لون له ولا رائحة ولا طعم، فالنجاة الوحيدة كانت أن يطبخوا هم. ولا أنكر، كان طبخهم لذيذًا!
أما مشكلتي المزمنة فهي “الصراحة المفرطة”. صديقاتي يلمنني: “غيداء، لا تقولين الحقيقة للغرباء!” لكنني لا أجيد الكذب، وحتى لو حاولت، لا أبدو مقنعة. فمثلًا، حين يسألني رجل: “هل تعيشين وحدك؟” أقف لثوانٍ أراجع الكذبة التي من المفترض أن أقولها، ثم أجيب، وبداخلي صوت يقول: تراك وااااضحة يا غيداء. وغالبًا ما تعتلي وجوههم ابتسامة ساخرة.
أتذكر صديقتي قالت لي: “لا تزينين باب شقتك، لا تحطين لوحة تدل على جنسك أو جنسيتك. لا علم، ولا زينة، ولا حتى لوحة السيارة.”
ضحكت، لأني لم أفكر في كل هذا قط، ولم أفعله لأني ببساطة، ما لي خلق.
وإن لم يكف سردي، فأنا أحب الليل وأبغض النهار.
فدائمًا تجدونني أتجول في الشوارع ليلاً، فقط أنا والسكارى. وهذا وحده كفيل بإثارة قلق كل من حولي.
ولي نزعة لا تهدأ تجاه النقاشات “الحساسة”، دينية كانت أو سياسية. يقولون لي: “اسكتي”، ولا أسكت. بل أفتح المواضيع مع الغرباء، بلا تحفظ.
وبعد أن ذهبت للبعثة، أخبرتني أمي أن إحدى القريبات الفضوليات سألتها باستغراب: “كيف تسمحين لابنتك تسافر بدون رجل؟”، فردّت أمي: “ما أدري، صاروا يبيعون الرجال في السوق؟ نشتري لنا واحد؟”، ضحكت ،وسعدت، وسأظل ممتنة لتلك الإجابة.
أعلم أنني ارتكبت حماقات كثيرة، ولدي سجل حافل من بالمواقف الغريبة والأخطاء العفوية، لكنني فخورة بها. فهي التي صنعتني، وهي التي علمتني، وسأستمر بالتعلم ما حييت.
في النهاية، لا أزعم أنني امتلكت كل الإجابات، ولا أنني كنت دومًا واثقة في قراراتي، لكني كنت أمشي رغم الخوف، رغم الضياع، رغم الأصوات التي شكّكت بي، أو الأصوات التي أحبّتني لكنها أرادت أن تحميني بطريقتها.
أقول لكل فتاة تقف أمام باب الحرية:
لا تخافي من أن تجربي، ولا تجعلي الخوف يُملِكك، ولا تجعلي أحدًا يُعرّفك بناءً على ضعفه، أو شكّه، أو رؤيته المحدودة. استمعي لنصح من تحبين، لكن لا تنسي أن تسمعي لصوتك، أن تثقي بحدسك، أن تراقبي قلبك حين يدق من الحماس لا من القلق فقط.
سترين أن بعض الأخطاء تضحكك لاحقًا، وبعض المواقف ستعلمك أكثر مما علمتك الكتب،
وأنك يومًا ما، ستنظرين خلفك بفخر وتقولين: “يا الله، سويتها!".
كوني طيّبة، لكن لا تكوني ساذجة.
كوني جريئة، لكن لا تفقدي حكمتك.
عيشي كما يليق بك، لا كما يُنتظر منك.
وإن تعثرتِ، تذكّري دومًا أن كثيرًا منّا مشى على دعاء أم، وحدس بنت، وجرأة قلب صغير، وكثير من لطف الله، وستمشين كما مشينا بمشيئته.
انبسطت جدًا جدًا وأنا أقرأ، كأني عشت معك!
شخصيتك في المواقف عسل 🤣
وعلى فكرة، في جوانب من شخصيتك تشبهني؛ ما أفكّر كثير، ولا أقلق أكثر من اللازم، أسوي الشي من غير ما أفكر بالعواقب أو وش بيصير بعدين
عشان كذا دايمًا يقولون لي: “إحنا ما نأخذ بقرارك، إنتِ مجنونة”،
والكلمة الشهيرة: “إنتِ أساسًا ماشية على دعوات والديك!”
المهم… عسل، الله يسعدك ويحفظ لك أهلك ومامتك💘
استمتعت جدًا
أهنيك على طريقة سردك جميلة فيها شيء مميز تخلي الشخص يقرأ بدون ما يمل